top of page

نضال لآخر نفس


ستجد في كتب التاريخ على مختلف مراحله وحقبه، الكثير من العبر، والكثير من المواقف الحياتية التي غيرت الكون، بل أثرت البشرية، وساهمت بطريقة أو أخرى في تقدم الإنسان ونموه الفكري والمعرفي. هذه الملامح ستجدها على وجه الخصوص في أتون قصص العلماء والمبتكرين والموهوبين، فهم لم يقدموا للعالم مخترعات ومنجزات ساهمت في نقلات مدوية وكبيرة في الحضارات والمجتمعات وحسب، بل هم بسيرتهم وطريقة حياتهم وأسلوب تفكيرهم، كانوا ملهمين لكل من يريد النجاح والتقدم والمسير على نفس الخطى التي خطتها أفئدة وأقلامهم، بل حتى الكلمات العابرة لهؤلاء الملهمين، لها معنى ورسالة. قبل أيام كنت أقرأ عن العالم الألماني الراحل يوهانز كيبلر، وهو عالم رياضيات وفلكي وفيزيائي، كان أول من وضع قوانين تصف حركة الكواكب بعد اعتمادها والاعتراف العلمي بفكرة الدوران حول الشمس، تميز هذا العالم بحس قوي على الملاحظة وتحويل جوانب ضعفه لقوة لتخدم الآخرين، فعندما ضعف بصره، اخترع العدسات التي باتت فيما الأساس الذي قام عليه علم البصريات الذي يتم تدريسه اليوم، ليس هذا وحسب، بل أنه اخترع تلسكوبا واكتشف نجماً جديداً، ليدشن حقبة جديدة في كشوف الفضاء، وهو من خرج بنظرية تحولت لواقع وحقيقة عندما قال بأن الشكل المسدس الأضلاع هو الأنسب للاستخدام للفضاء، والتي تحولت لصناعة الصواريخ التي تعبر اليوم الغلاف الجوي لكوكب الأرض، حسه ومراقبته الدقيقة وعلمه الوفير هي التي مكنته من الاستنتاج من أن النباتات في متابعتها للضوء والبحث عنه لم تكن دائرية، وبالتالي خرج بأنه من الممكن أن لا تكون الكواكب أيضاً خلال مسيرها نحو الشمس دائرية، واصل حياته التأملية العميقة ولم ينقطع نظره عن رؤية الجزئيات لكل شيء وتحليلها في عقله وطرح التساؤلات الدائمة، حتى توقف كل هذا في عام 1630م بإعلان وفاته. كتب على قبره: "لقد قست السماوات، أما الآن فإنني أقيس الظلال". بهؤلاء قامت الحضارة، وبعمق التفكير والتأمل والتدبر، تخرج أجيال جديدة من العلماء الذين يلهمون العالم ويقودونه نحو المنجزات والمزيد من الابتكارات، والهدف سعادة البشرية وتقدمها وتغلبها على الأوجاع والأحزان، قد لا يتحقق مثل هذا الهدف، لكن السعي نحوه بحد ذاته كفيل بمنح الإنسان شعور غامر بالتفوق وراحة الضمير، فضلاً عن تقدير الذات كونها حاولت أن تقدم شيئاً مميزاً وثرياً ومفيداً للناس، دون ثمن وبلا أي شروط أو حسابات مسبقة، كل الذي كان محاولة جادة للعلم والتعلم، ولا شيء آخر.


bottom of page