top of page

صاحب الضربة الأولى


إذا أرادت البشرية التوقف أمام الأسماء التي أحدثت فرق في العالم، التي غيرت مجرى التاريخ، فإنها دون شك ستجد ثلة من العلماء، تميزوا بأنهم أعلنوا نتائج بحوثهم، في أزمان قاسية، من حيث الجو الاجتماعي الملبد بغيوم الجهل والسيطرة على العقول من قوى تعتبر أن العلم مهدد ومزعزع لثقتها ومكانتها في المجتمع. في هذا السياق، يقال بأن هناك خمسة أشخاص لعبوا دوراً محورياً في نقل أوروبا من حالة السبات العميق إلى مرحلة النهضة. هؤلاء الأشخاص هم البولندي كوبرنيكوس، الدنماركي براهه، الألماني كبلر، الإيطالي جاليليو والإنجليزي نيوتن. ورغم كل واحد من هؤلاء له قصة ملحمية، وقدم خدمة جليلة للبشرية لا يمكن أن تقدر بثمن، وقد تتاح الفرصة واستعرض كل واحدا على حدة، إلا أن ما يعنيني الآن هو العالم كوبرنيكوس، لأنه أول هؤلاء العلماء، والذي تعده كثير من المصادر أكثر هؤلاء الأشخاص تأثيراً وفعاليةً وأنه هو من حرك المياه الراكدة، لأنه هو صاحب الضربة الأولى، كما يقال، الضربة التي زلزلت كيانات الجمود القائمة في عصره بل وصدعها بغير رجعة وجعلتها غير قابلة للإصلاح. حيث يعتبر الكثير من المؤرخين أطروحاته ونتائجه العلمية والتي تجاوزت حدود الفلك لتشمل مختلف العلوم من الدين والسياسة حتى الفلسفة والثقافة والعلوم الإنسانية جميعها، كانت لها أثر كبير في العقل ونمو المعرفة وتحررها من الجمود. ولعل أكثر طرح تم إعلانه في ذلك الحين وسبب ضجة في تلك المجتمعات البدائية، عندما أعلن كوبرنيكس أن الأرض تدور، وأنها ليست مركز الكون، متجاهلاً تماماً نظرية بطليموس أرسطو، والتي استمر تخليدها لنحو عشرين قرن من الزمان، ليس هذا وحسب بل دعمتها الكنيسة لأكثر من 12 قرن، وأصدرت قانون بمعاقبة أي تشكيك لدرجة الرمي بالإلحاد ضد أي رأي مضاد. جاء هذا العالم من وسط الكنيسة نفسها فهو راهب، لكنه فكر بعقله وآمن بالعلم، وأيضاً آمن بالنتائج التي توصل لها من خلال البحث ومراقبة النجوم والظواهر الفلكية وعمل الحسابات ووضع الفرضيات، وفي نهاية المطاف حقق سبق مدوي يخلد له حتى اليوم وتدونه كتب التاريخ بمداد من العرفان والتقدير، لعالم واجه صعوبات التشدد الديني والقسوة على العلم والعلماء، فضلاً عن مجتمعات تعيش في سطحية معرفية، وسط هذا جميعه لم يخف أو يتردد أو يتراجع، بل أنه دون نتائج دراساته وأعلنها للعالم. فكان له أن يبقى في تاريخ وذاكر البشرية عرفاناً وتقديراً لضربته الأولى في تلك العقول المتجمدة...


bottom of page