top of page

الغناء من جديد


في هذه الحياة نصطدم بكثير من التوجهات والآراء التي تملى علينا كآراء شخصية وفي أحيان أخرى كتوجيه وإرشاد. بعض الناس في غالب الوقت يفضلون الانقياد لآراء معينة وفكر يميلون له من دون البحث والتعمق والتقصي كون هذا أسهل لهم ومريحاً للبال. إن تأجير العقول لأفكار الغير يحمل على المدى البعيد تأثيراً اجتماعياً كبيراً، فهو يحد من التنوع الفكري ويجعل معظم الناس يعيشون وفق قالب معين يتعصبون تجاهه وينبذون المختلفين عنهم فيه. هذه معضلة حقيقية فلا يمكننا إيقاف أصوات أصحاب الأصوات المسموعة عن التأثير ولا يمكننا أن نتحكم بعقول الآخرين وما يؤمنون به وما لا يؤمنون.

ما جعلني أطرح هذه القضية هو الموضوع الشائك على مر هذه السنين وهو حكم الموسيقى والغناء في الإسلام، هل تندرج تحت متع الحياة المباحة أم من المنكرات المُفسِدة؟ كثرت الأٌقاويل في هذا السياق وتنوّعت الحجج، إذ إن المحرّمين يستدلون بأحاديث عدة للرسول عليه الصلاة والسلام مثل ما رواه أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله عز وجل إليه شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يُمسك) وحديث آخر مثل: ( كان إبليس أول من ناح وأول ما تغنى). والذين يرون إباحته يستدلون بما روته عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر سفراً فنذرت جارية من قريش لئن رده الله تعالى أن تضرب في بيت عائشة بدف، فلما رجع رسول الله جاءت الجارية وقالت عائشة لرسول الله: فلانة ابنة فلان نذرت لئن ردك الله تعالى أن تضرب في بيتي بدف، فقال: فلتضرب. ويقول أبو الفضل في تفسير هذا الحديث: قال الرسول لا نذر في معصية، ولو كان ضرب الدف معصية لمنعها من فعله. وأحاديث أخرى ليس هذا مجال ذكرها. وفي هذا السياق أيضاً، قال الفيلسوف الإمام أبو حامد محمد الغزالي: (لله سبحانه وتعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى أنها لتؤثر فيها تأثيراً طيباً، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم ومنها ما يضحك ويطرب ومنها ما يستخرج من الأعضاء على وزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر بل هذا جارٍ في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج). في أوقات كثيرة، كما أسلفت سابقاً، يسهل للناس أن تسلّم عقولها كاملة لأي قول يميلون له، فهذا أسهل من التعمق والتقصي والبحث في سند الحديث وبطون الكتب ويتناسون كلياً قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استفتِ قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك). وفي هذا الحديث أجد دعوة للتفكير والتقصي والتعمق بدلاً من الاتكاء على أفكار الغير، فلو تأملنا حقيقة الموسيقى سنجد أنها سلسلة من الإيقاعات المتتالية يتم ترديدها بأشكال مختلفة لتأخذ لحناً معيّناً والإيقاع ليس إلا ترديداً متواصلاً لنظام معين بحيث يتحقق انسجام هذا الترديد أثناء استمراره واتصاله. مما يعني أن حركة الأمواج وتغريد الطيور وهدير الشلالات وصوت الإنسان كلها إيقاعات، فإذا كانت الموسيقى حرام فهذا يعني أن الإيقاع حرامٌ أيضاً وهذا ما لا يمكن أن يكون فلا أحد يمكنه أن يضع حداً لإيقاعات الكون من حولنا.

فلأن للموسيقى أبعادها العميقة وتأثيرها الفيسيولوجي والنفسي جاء تحريمها في حال وظّفت لمقاصد مسيئة للفرد والمجتمع.وفي نهاية المطاف إن إسلامنا دين وسط واعتدال وأي مظهر من مظاهر الجمال لن يحرمنا منه فالله جميل ويحب الجمال، لكن العمق في الأحكام الشرعية أحياناً لا يصل له أولئك الذين أهدوا عقولهم للغير.

لمشاهدة المادة من المصدر اضغط الرابط التالي:

http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/c9926319-4922-43f7-a533-d6645696b8bb


bottom of page