هذا الكتاب «هوس العبقرية، الحياة السرية لماري كوري» مؤثر لدرجة بالغة، لكن الأهم أنه ملهم لدرجة عظيمة، تكمن أهمية هذه السيرة الذاتية في جانبين أولهما في شخصية العالمة ماري كوري الملهمة والمؤثرة، وثانيهما في من قامت بكتابة هذه السيرة، وهي المؤلفة باربارا غولد سميث، التي تحقق كتبها دوماً مبيعات هائلة في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ومختلف دول العالم، ويكفي أن نعلم أنها حصلت على درجة الدكتوراه أربع مرات، وجائزة إيمي مرتين؛ وهي جائزة معروفة وشهيرة، وأخذ كل من البروفيسور أحمد عبدالله السماحي، والبروفيسور فتح الله الشيخ، نقل هذا المنجز وترجمته إلى اللغة العربية، وتم نشر الطبعة العربية الأولى عام 2009م عن دار العين للنشر، وذلك في إطار مشروع «كلمة»، الذي يعد من برامج هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. الكتاب حوى 21 فصلاً، وضع كل تفاصيل حياة هذه العالمة بين يدي القراء، من الفقر والجوع والحاجة والفاقة حتى المعارك التي لم تنته للحصول على مكانة في جامعة السوربون التي كانت في ذلك الوقت حكراً على الرجال فقط، لتحط الرحال عند جائزة نوبل، ليس مرة، بل مرتين! مرة في الفيزياء، وأخرى في الكيمياء. تقول المؤلفة باربرا في مقطع من الكتاب: «لا شك أن حياة مدام كوري كانت ملهمة في الواقع، فقد كانت نادرة كوحيد القرن في مجال العلم. جاءت من أسرة فقيرة وعملت ثماني سنوات لتوفر النقود لتدرس في السوربون، وتغلبت على صعاب تفوق الجبال، وفي سنة 1893م كانت ماري كوري أول سيدة تحصل على درجة علمية في الفيزياء من السوربون، وفي السنة التالية حصلت على درجة علمية ثانية في الرياضيات، وكانت أول سيدة تحصل على لقب أستاذ في السوربون، وأول سيدة تحصل، ليس على جائزة نوبل واحدة فقط، بل على اثنتين؛ الأولى في الفيزياء بمشاركة زوجها وهنري بيكيريل لاكتشافهم ظاهرة النشاط الإشعاعي، والثانية جاءت بعد ثماني سنوات في الكيمياء لفصلها عنصر البولنيوم والراديوم، وهي أول سيدة يتم انتخابها في الأكاديمية الفرنسية للطب، عمر هذه الأكاديمية أكثر من 224 في ذلك الوقت، وإضافة إلى نجاحها المذهل تمكنت من تربية أطفالها تربية قويمة علمية عظيمة... يمتاز هذا المنجز «هوس العبقرية» بأنه علمي وأدبي وتاريخي، هو مزيج من كل هذا، فهي رواية وأكثر ما يميزها الحقائق المذهلة، بمعنى رواية حقيقية تماماً، ستجد فيها جوانب شيقة من الخيال، ولكنه خيال واقعي، وستجد معلومات ثرية وملهمة. قراءة هذا الكتاب ستضيف لك قيمة أخرى عن الحياة، وستلاحظ ببساطة متناهية كيف يمكن للطفولة والمبادئ التي نغرسها في الأطفال والمواقف التي يتعرضون لها كيف يمكن لها أن تؤثر في تكوين الشخصية والاهتمامات والأفكار والتوجهات في المستقبل، إن ماري كوري التي نعرفها اليوم ليست إلا نتاج «مانيا» الصغيرة (مانيا هو اسم الدلع الذي كان يُطلق على ماري كوري في طفولتها) فن التعايش هو الذي جعل ماري كوري تحقق كل طموحاتها وتنجح نجاحاً باهراً وغير متوقع في زمنها، التعايش مع الظروف العائلية، التعايش مع الفقر، التعايش مع التمييز ضد الإناث والتمييز ضد الأصول والأعراق، التعايش مع الضغوط الأسرية والتربوية.. وكثير من الأمور!.. لكن المذهل بحق أنه أثناء قراءتي هذا الكتاب كانت هناك شخصيات أخرى أحببتها جداً وتستحق أن يتم التوقف عندها ملياً، من هذه الشخصيات العالم الكيميائي الشهير رذرفورد، وزوجها بيير، وأختها برونيا، ووالدها.
أخيراً، لقد كانت السيدة الملهمة ماري كوري مسكونة بالعبقرية ولديها هوس بالغ بالإنجاز والابتكار والتميز، لقد خلدت اسمها في تاريخ العلوم والمكتشفين الذين أثروا البشرية، فلم يكف أن تحصل على نوبل مرتين، بل ساعدت زوجها في الحصول عليها، ودفعت ابنتيها للفوز بنوبل أيضاً، لتصبح نوبل معرضاً في منزلها خمس مرات، فهل هناك هوس بالعبقرية والتميز أكثر من هذا، وهل هناك إثراء للبشرية مثل هذه السيدة الملهمة! هي دعوة لقراءة هذا المنجز الروائي العلمي التاريخي، وتقديمه إهداء لأبنائنا وبناتنا، لأنه ملهم ومحفز، وأه
م مميزاته أنه يتحدث عن واقع وحقائق.. وفي عام 1934م فشلت الجهود الطبية في إنقاذ حياتها، إذ توفيت بسبب فقر الدم اللاتنسجي، الذي أصابها بسبب تعرضها بكثرة للعناصر المشعة، وفي ذلك الزمن لم يكن معروفاً لدى العلماء والأطباء الأخطار البالغة للتعرض للأشعة. وستبقى مدام ماري في ذاكرة العلوم وتاريخ نوبل وكل باحث عن العلم والامتياز قدوة ومضرب مثل لتحقيق المستحيل... لقد تعلمت ماري كوري فن التعايش فمنحتها الحياة كنوزها.
لقراءة المقال من جريدة الحياة اضغط هنا