شيماء المرزوقي المؤلفة آميلي نوثومب، بعيداً عن جميع إنجازاتها الأدبية، هي ابنة لسفير بلجيكي، وهذا ببساطة مؤشر على الحياة المزدحمة والمتنوعة والمتنقلة التي عاشتها وبالتالي من الطبيعي أن تكتب كثيراً عن مغامراتها وأسفارها حول العالم ومشاهدتها وطبيعة الحياة في كل مكان زارته، لكن في كتابها "بيوغرافيا الجوع" لم يكن هذا سوى جزء بسيط من المغامرة العظيمة التي تعيشها كل يوم . . مغامرة إشباع الجوع عبر البحث عما يمكن له أن يُخرس هذا النداء الصاخب في أعماقها، هو لمس ما يمكن له أن يثبط جموح الاكتشاف فيها . ببساطة كان ذهنها في حالة تفكير دائم، وتحليل لكل شيء تقع عيناها عليه، وقد يبدو الأمر طبيعياً عندما نتحدث عن شخص بالغ لكن تلك الحالة كانت تعتري المؤلفة منذ طفولتها حتى سن الثانية عشرة، وهذه المرحلة كتبت عنها في "بيوغرافيا الجوع" ضمن حديثها عن حياتها التي بدأت في اليابان حتى سن الخامسة ثم انتقالها إلى الصين وأمريكا وبنغلادش والهند برفقة عائلتها الدبلوماسية . سطورها لا تعبر عن المشاهدات وثقافات البلدان وحسب بل عن الصراعات الذهنية والفلسفة العميقة في ذهن طفلة جائعة . جائعة نحو ماذا؟ هذا ما يدور حوله النص الأدبي . . تقول آميلي نوثومب في مقطع من كتابها: "هل الجوع هو فقط جوع البطن؟ أليس هذا مؤشراً على جوع أعم؟ فالجوع يعني في نظري تلك الحاجة الفظيعة التي تمس الكائن كله، ذاك الفراغ الآسر، وذلك التوق لا إلى الامتلاء الطوباوي بل إلى تلك الحقيقة البسيطة، فحيث لا يوجد شيء أتطلع لأن يكون ثمة شيء" . في نظرها كان العالم مزدحماً بالصخب، بالوجوه، بالأحداث، بالأفكار، مزدحم جداً لحد أنها ترغب أن تلقي نظرة شمولية ليهدأ ذهنها المتطلع أو كما وصفته "الجائع"، فهي لا تنفك تصف نفسها قائلة "الجوع هو أنا" . من هنا تأتي المفارقة في أسلوب حياة الناس المفكرين والناس الذين يخضعون لاستقبال الأفكار من غيرهم من دون بذل أي جهد يذكر في التفكير، ولا أخفي أنني في هذا الكتاب أدركت أن التفكير بحد ذاته متعة ورحلة، فالأمر لا يتعلق بقص تذاكر سفر والتجوال حول العالم لرؤية الثقافات والشعوب، فكثير من الناس لا يعتبرون السفر وسيلة ترفيه بل مشقة وتعب، ما السبب إذاً؟ السبب يكمن في ذهنك، هل ذهنك يسافر معك؟ هل هو يقظ؟ هل هو شغوف بالحياة؟ إن الرحلات التي عاشتها نوثومب لم تكن شيئاً يذكر لولا أن ذهنها كان بمثابة الطائرة المحلقة نحو الاكتشاف . التفكير والتساؤل هما الرحلة التي يمكن لنا جميعاً خوضها، من دونهما الحياة فارغة تماماً مهما كان عدد السفرات التي خضناها . في كتابها تنتقد نوثومب أصحاب العوالم الضيقة الذين لا يسعون نحو شغفهم بل على العكس كل ما يقومون به هو تصعيب الحياة وتعكير صفوها على أصحاب الطموح والتطلع، وفي فصول طريفة تتحدث فيها عن هوسها بالسكر وكيف حاولت أمها منعها عن تناوله واستبداله بالفواكه والخضروات . تقول: "وحده الجوع الخارق يفسد جوع أي كان، فهو يدرك تماماً ما يرغب، يرغب بالأفضل والألذ والفاخر ويتكفل باكتشاف كل جانب من جوانب المتعة . . عندما كنت أشكو حرماني من السكاكر كانت أمي تقول إنني سوف أعتاد على الأمر . خطأ! لم أعتد الأمر وما إن بلغت السن التي تخولني أن أكون مستقلة غذائياً قصرت طعامي على السكاكر!" . ورغم أنها مجرد معركة طفولية للحصول على الحلوى، إلا أنها بطريقة ما تنطبق تماماً على واقع الحياة اليومية، فالإنسان الشغوف عندما يصطدم بجدار يحرمه من نيل رغبته فإن هذه الرغبة تزداد وتتأجج أكثر فأكثر في أعماقه ولن تهدأ حتى ينالها أو يفصل بينهما الموت . في نظري، هذه هي العتبة الأولى التي صعدها العظماء والمفكرون حتى اعتلوا منصات التكريم ونالوا الجوائز العالمية، الأمر كله يتعلق بالبحث عما يجعل نداء الجوع في دواخلنا يهدأ، البحث المضني عن إنجاز لطالما كنا شغوفين به . "بيوغرافيا الجوع" ليس إلا العالم داخل ذهن طفلة، كتاب سهل القراءة بفصول قصيرة لكنه ممتلئ بالانعكاسات التي تصف هذه الأرض الصغيرة والمزدحمة بالشعوب . ليس إلا رحلة مشوقة تثير في داخلنا الجوع نحن أيضاً . جاء الكتاب في 239 صفحة من القطع الوسط ووزعت المؤلفة فصوله إلى 61 فصلاً قصيراً، حيث طرحت خلال الفصل الأول حتى الرابع تجاربها وحياتها في أرخبيل أوقياني أو جزر هيبريدس الجديدة وشرحت طبيعة الحياة السهلة والمميزة لدى شعب تلك الجزر، والخامس خصصته للحديث عن فلسفتها عن الجوع وهوسها بالسكاكر وفي الفصل السادس تناولت موضوع الشراهة وخصت بالذكر والدها في أسلوب ساخر وطريف جداً . . وتوالت الفصول حول اصطدام حياتها اليومية مع مبادئها الراسخة عن الجوع ومواقفها مع مختلف الناس من مختلف أصقاع الأرض .
جاذبية السرد
في نهاية الكتاب، جاءت كلمة للناشر وصف فيها الرواية قائلاً: "تسرد نوثومب بلغة مشوقة وسلسلة وتقول أشياء كثيرة في كلمات قليلة، في هذه الرواية تأخذنا الكاتبة في رحلة تبدأ من اليابان ثم تعبر الصين وأمريكا وبنغلادش والهند وكمبوديا، فيما تسرد حياة تبدو أنها حياتها منذ أن كانت طفلة حتى صارت الكاتبة وفي كل هذه المحطات نجد صوراً لا ندركها عبر الكتب فهي الصور بعين آميلي نوثومب وهي جاذبية السرد والروي بحرارة التحديات التي تصنع حياة المرء" .
لمشاهدة المقال من المصدر أنقر على الرابط التالي:
http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/5dec92a6-4870-44a2-9683-b4dcef642c85